فصل: ذكر الخلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قبض السلطان مسعود وقتله وملك أخيه محمد:

قد ذكرنا عود مسعود بن محمود بن سبكتكين إلى غزنة من خراسان، فوصلها في شوال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وقبض على سباشي وغيره من الأمراء، كما ذكرناه، وأثبت غيرهم، وسير ولده مودوداً إلى خراسان في جيش كثيف ليمنع السلجوقية عنها، فسار مودود إلى بلخ ليرد عنها داود أخا طغرلبك، وجعل أبوه مسعود مع وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبر الأمور، وكان مسيرهم من غزنة في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين.
وسار مسعود بعدهم بسبعة أيام يريد بلاد الهند ليشتوا بها، على عادة والده، فلما سار أخذ معه أخاه محمداً مسمولاً، واستصحب الخزائن، وكان عازماً على الاستنجاد بالهند على قتال السلجوقية ثقة بعهودهم. فلما عبر سيحون، وهو نهر كبير، نحو دجلة، وعبر بعض الخزائن اجتمع أنوشتكين البلخي وجمع من الغلمان الدارية ونهبوا ما تخلف من الخزانة، وأقاموا أخاه محمداً ثالث عشر ربيع الآخر، وسلموا عليه بالإمارة، فامتنع من قبول ذلك، فتهددوه وأكرهوه، فأجاب وبقي مسعود فيمن معه من العسكر وحفظ نفسه، فالتقى الجمعان منتصف ربيع الآخر، فاقتتلوا، وعظم الخطب على الطائفتين، ثم انهزم عسكر مسعود، وتحصن هو في رباط ماريكلة، فحصره أخوه، فامتنع عليه، فقالت له أمه: إن مكانك لا يعصمك، ولأن تخرج إليهم بعهد خير من أن يأخوك قهراً. فخرج إليهم، فقبضوا عليه، فقال له أخوه محمد: والله لا قابلتك على فعلك بي، ولا عاملتك إلا بالجميل، فانظر أين تريد أن تقيم حتى أحملك إليه ومعك أولادك وحرمك. فاختار قلعة كيكي، فأنفذه إليها محفوظاً، وأمر بإكرامه وصيانته.
وأرسل مسعود إلى أخيه يطلب منه مالاً ينفقه، فأنفذ له خمسمائة درهم، فبكى مسعود وقال: كان بالأمس حكمي على ثلاثة آلاف حمل من الخزائن، واليوم لا أملك الدرهم الفرد، فأعطاه الرسول من ماله ألف دينار فقبلها، وكانت سبب سعادة الرسول، لأنه لما ملك مودود بن مسعود بالغ في الإحسان إليه.
ثم إن محمداً فوض أمر دولته إلى ولده أحمد، وكان فيه خبط وهوج، فاتفق هو وابن عمه يوسف بن سبكتكين وابن علي خويشاوند على قتل مسعود ليصفو الملك له ولوالده، فدخل إلى أبيه، فطلب خاتمه ليختم به بعض الخزائن، فأعطاه، فسار به إلى القلعة، وأعطوا الخاتم لمستحفظها، وقالوا: معنا رسالة إلى مسعود، فأدخلهم إليه فقتلوه، فلما علم محمد بذلك ساءه، وشق عليه، وأنكره.
وقيل إن مسعوداً لما حبس دخل عليه ولدا أخيه محمد، واسم أحدهما عبد الرحمن، والآخر عبد الرحيم، فمد عبد الرحمن يده فأخذ القلنسوة من رأس عمه مسعود، فمد عبد الرحيم يده وأخذ القلنسوة من أخيه، وأنكر عليه ذلك، وسبه، وقبلها، وتركها على رأس عمه، فنجا بذلك عبد الرحيم من القتل والأسر لما ملك مودود بن مسعود، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثم إن محمداً أغراه ولده أحمد بقتل عمه مسعود، فأمر بذلك، وأرسل إليه من قتله وألقاه في بئر وسد رأسها، وقيل بلى ألقي في بئر حياً وسد رأسها فمات، والله أعلم.
فلما مات كتب محمد إلى ابن أخيه مودود، وهو بخراسان، يقول: إن والدك قتل قصاصاً، قتله أولاد أحمد ينالتكين بلا رضا مني، فأجاب مودود يقول: أطال الله بقاء الأمير العم، ورزق ولده المعتوه أحمد عقلاً يعيش به، فقد ركب أمراً عظيماً، وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين سيد الملوك والسلاطين، وستعلمون في أي حتف تورطتم، وأي شر تأبطتم {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.
نفلق هاماً من رجال أعزة ** علينا، وهم كانوا أعق وأظلما

وطمع جند محمد فيه، وزالت عنهم هيبته، فمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا فنهبوها، فخربت البلاد، وجلا أهلها، لاسيما مدينة برشاوور فإنها هلك أهلها، ونهبت أموالهم، وكان المملوك بها يباع بدينار، وتباع الخمر كل منا بدينار، ثم رحل محمد عنها لليلتين بقيتا من رجب، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان السلطان مسعود شجاعاً كريماً، ذا فضائل كثيرة، محباً للعلماء، كثير الإحسان إليهم، والتقرب لهم، صنفوا له التصانيف الكثيرة في فنون العلوم، وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحاجة، تصدق مرة في شهر رمضان بألف ألف درهم، وأكثر الإدرارات والصلاة، وعمر كثيراً من المساجد في ممالكه، وكانت صنائعه ظاهرة مشهورة، تسير بها الركبان مع عفة عن أموال رعاياه، وأجاز الشعراء بجوائز عظيمة، أعطى شامراً على قصيدته ألف دينار، وأعطى آخر بكل بيت ألف درهم، وكان يكتب خطاً حسناً، وكان ملكه عظيماً، فسيحاً، ملك أصبهان والري وهمذان وما يليها من البلاد، وملك طبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الروان وكرمان وسجستان والسند والرخج وغزنة، وبلاد الغور والهند، وملك كثيراً منها، وأطاعه أهل البر والبحر، ومناقبه كثيرة، وقد صنفت فيها التصانيف المشهورة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها.

.ذكر ملك مودود بن مسعود وقتله عمه محمداً:

لما قتل الملك مسعود وصل الخبر إلى ابنه مودود، وهو بخراسان، فعاد مجداً في عساكره إلى غزنة فتصاف هو وعمه محمد في ثالث شعبان، فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه وعلى ولده أحمد، وأنوشتكين الخصي البلخي، وابن علي خويشاوند، فقتلهم، وقتل أولاد عمه جميعهم، إلا عبد الرحيم لإنكاره على أخيه عبد الرحمن ما فعله بعمه مسعود، وبنى موضع الوقعة قرية ورباطاً، وسماها فتح آباذ، وقتل كل من له في القبض على والده صنع، وعاد إلى غزنة فدخلها في ثالث وعشرين شعبان سنة اثنتين وثلاثين، واستوزر أبا نصر وزير أبيه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وسلك سيرة جده محمود.
وكان داود أخو طغرلبك قد ملك مدينة بلخ، واستباحها، كما ذكرناه، ومودود مقابله، فتجدد قتل مسعود، فعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فلما تجدد هذا الظفر لمودود ثار أهل هراة بمن عندهم من الغز السلجوقية، فأخرجوهم وحفظوها لمودود، واستقر الأمر لمودود بغزنة، ولم يبق له هم إلا أمر أخيه مجدود، فإن أباه قد سيره إلى الهند سنة ست وعشرين، فخاف أن يخالف عليه، فأتاه خبره أنه قصد لهاوور، وملتان، فملكهما، وأخذ الأموال، وجمع بها العساكر، وأظهر الخلاف على أخيه، فندب إليد مودود جيشاً ليمنعوه ويقاتلوه، وعرض مجدود عسكره للمسير، وحضر عيد الأضحى، فبقي بعده ثلاثة أيام، وأصبح ميتاً بلهاوور لا يدري كيف كان موته، وأطاعت البلاد بأسرها مودوداً، ورست قدمه، وثبت ملكه، ولما سمعت الغز السلجوقية ذلك خافوه، واستشعروا منه، وراسله ملك الترك بما وراء النهر بالانقياد والمتابعة.

.ذكر الخلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل:

في هذه السنة اختلف جلال الدولة، ملك العراق، وقرواش بن المقلد العقيلي، صاحب الموصل.
وكان سبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنفذ عسكراً سنة إحدى وثلاثين فحصروا خميس بن ثعلب بتكريت، وجرى بين الطائفتين حرب شديدة في ذي القعدة منها، فأرسل خميس ولده إلى الملك جلال الدولة، وبذل بذولاً كثيرة ليكف عنه قرواشاً، فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى قرواش يأمره بالكف عنه، فغالط ولم يفعل، وسار بنفسه ونزل عليه يحاصره، فتأثر جلال الدولة منه.
ثم إنه أرسل كتباً إلى الأتراك ببغداد يفسدهم، وأشار عليهم بالشغب على الملك وإثارة الفتنة معه، فوصل خبرها إلى جلال الدولة، وأشياء أخر كانت هذه هي الأصل، فأرسل جلال الدولة أبا الحارث أرسلان البساسيري في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ليقبض على نائب قرواش بالسندية، فسار ومعه جماعة من الأتراك، وتبعه جمع من العرب، فرأى في طريقه جمالاً لبني عيسى، فتسرع إليها الأتراك والعرب فأخذوا منها قطعة، وأوغل الأتراك في الطلب.
وبلغ الخبر إلى العرب، وركبوا وتبعوا الأتراك، وجرى بين الطائفتين حرب انهزم فيها الأتراك، وأسر منهم جماعة، وعاد المنهزمون فأخبروا البساسيري بكثرة العرب، فعاد ولم يصل إلى مقصده.
وسار طائفة من بني عيسى، فكمنوا بين صرصر وبغداد ليفسدوا في السواد، فاتفق أن وصل بعض أكابر القواد الأتراك، فخرجوا عليه فقتلوه وجماعة من أصحابه، وحملوا إلى بغداد، فارتج البلد، واستحكمت الوحشة مع معتمد الدولة قرواش، فجمع جلال الدولة العساكر وسار إلى الأنبار، وهي لقرواش، على عزم أخذها منه، وغيرها من أقطاعه بالعراق، فلما وصلوا إلى الأنبار أغلقت، وقاتلهم أصحاب قرواش، وسار قرواش من تكريت إلى خصة على عزم القتال، فلما نزل الملك جلال الدولة على الأنبار قلت عليهم العلوفة، فسار جماعة من العسكر والعرب إلى الحديثة ليمتاروا منها، فخرج عليهم عندها جمع كثير من العرب، فأوقعوا بهم، فانهزم بعضهم وعادوا إلى العسكر، ونهبت العرب ما معهم من الدواب التي تحمل الميرة، وبقي المرشد أبو الوفاء وهو المقدم على العسكر الذين ساروا لإحضار الميرة وثبت معه جماعة.
ووصل الخبر إلى جلال الدولة أن المرشد أبا الوفاء يقاتل، وأخبر سلامته وصبره للعرب، وأنهم يقاتلونه وهو يطلب النجدة، فسار الملك إليه بعسكر، فوصلوا، وقد عجز العرب عن الوصول إليه، وعادوا عنه بعد أن حملوا عليه وعلى من معه عدة حملات صبر لها في قلة من معه. ثم اختلف عقيل على قرواش، فراسل جلال الدولة، وطلب رضاه، وبذل له بذلاً أصلحه به، وعاد إلى طاعته، فتحالفا، وعاد كل إلى مكانه.

.ذكر ملك أبي الشوك دقوقا:

كانت دقوقا لأبي الماجد المهلهل بن محمد بن عناز، فسير إليها أخوه حسام الدولة أبو الشوك ولده سعدي، فحصرها، فقاتله من بها.
ثم سار أبو الشوك إليها، فجد في حصارها ونقب سورها ودخلها عنوة، ونهب أصحابه بعض البلد، وأخذوا سلاح الأكراد وثيابهم، وأقام حسام الدولة بالبلد ليلة، وعاد خوفاً على البندنيجين وحلوان، فإن أخاه سرخاب ابن محمد بن عناز كان قد أغار على عدة مواضع من ولايته، وحالف أبا الفتح ابن ورام والجاوانية عليه، فأشفق من ذلك، وأرسل إلى جلالة الدولة يطلبمنه نجدة، فسير إليه عسكراً امتنع بهم.

.ذكر الحرب بين عسكر مصر والروم:

في هذه السنة كانت الوقعة بين عسكر المصريين سيره الدزبري وبين الروم، فظفر المسلمون.
وكان سبب ذلك أن ملك الروم قد هادنه المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، على ما ذكرناه. فلما كان الآن شرع يراسل ابن صالح بن مرداس ويستميله، وراسله قبله صالح ليتقوى به على الدزبري، خوفاً أن يأخذ منه الرقة، فبلغ ذلك الدزبري فتهدد ابن صالح فاعتذر وجحد.
ثم إن جمعاً من بني جعفر بن كلاب دخلوا ولاية أفامية، فعاثوا فيها، ونهبوا عدة قرى، فخرج عليهم جمع من الروم فقاتلوهم وأوقعوا بهم، ونكلوا فيهم، وأزالوهم عن بلادهم.
وبلغ ذلك الناظر بحلب، فأخرج من بها من تجار الفرنج، وأرسل إلى المتولي بأنطاكية يأمره بإخراج من عندهم من تجار المسلمين، فأغلظ للرسول، وأراد قتله، ثم تركه، فأرسل الناظر بحلب إلى الدزبري يعرفه الحال، وأن القوم على التجهز لقصد البلاد، فجهز الدزبري جيشاً وسيره على مقدمته، فاتفق أنهم لقوا جيشاً للروم وقد خرجوا لمثل ما خرج إليه هؤلاء، والتقى الفريقان بين مدينة حماة وأفامية واشتد القتال بينهم، ثم إن الله نصر المسلمين، وأذل الكافرين، فانهزموا وقتل منهم عدة كثيرة، وأسر ابن عم للملك، بذلوا في فدائه مالاً جزيلاً، وعدة وافرة من أسراء المسلمين، وانكف الروم عن الأذى بعدها.

.ذكر الخلف بين المعز وبني حماد:

في هذه السنة خالف أولاد حماد على المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وعادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان والخلاف عليه، فسار إليه المعز، وجمع العساكر وحشدها، وحصر قلعتهم المعروفة بقلعة حماد، وضيق عليهم، وأقام عليهم نحو سنتين.

.ذكر صلح أبي الشوك وعلاء الدولة:

وفيها سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى علاء الدولة بن كاكويه، واستصرخه، واستعان به على أخيه أبي الشوك، فسار معه، فلما بلغ قرميسين رجع أبو الشوك إلى حلوان، فعرف علاء الدولة رجوعه، فسار يتبعه، حتى بلغ المرج، وقرب من أبي الشوك، فعزم أبو الشوك على قصد قلعة السيروان والتحصن بها، ثم تجلد، وأرسل إلى علاء الدولة: إنني لم أنصرف من بين يديك إلا مراقبة لك، وإعظاماً لقدرك، واستعطافاً لك، فإذا اضطررتني إلى ما لا أجد بداً منه كان الغدر قائماً لي فيه، فإن ظفرت بك طمع فيك الأعداء، وإن ظفرت بي سلمت قلاعي وبلادي إلى الملك جلال الدولة. فأجابه علاء الدولة إلى الصلح على أن يكون له الدينور، وعاد فلحقه المرض في طريقه وتوفي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد، وسببه عدم الأمطار، فسميت سنة الغبار، ودام ذلك إلى سنة أربع وثلاثين، فخرج الناس فاستسقوا.
وفيها توفي أمير الغز العراقية بالري، ودفن بناحية من أعمالها.
وفيها توفي صاعد بن محمد أبو العلاء النيسابوري ثم الاستوائي، قاضي نيسابور، وكان عالماً فقيهاً، حنفياً، انتهت إليه رئاسة الحنفية بخراسان. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة:

.ذكر وفاة علاء الدولة بن كاكويه:

في هذه السنة، في المحرم، توفي علاء الدولة أبو جعفر بن دشمنزيار، المعروف بابن كاكويه، بعد عوده من بلد أبي الشوك، وإنما قيل له كاكويه لأنه ابن خال مجد الدولة بن بويه، والخال بلغتهم كاكويه، وقام بأصبهان ابنه ظهير الدين أبو منصور فرامرز مقامه، وهو أكبر أولاده، وأطاعه الجند بها، فسار ولده أبو كاليجار كرشاسف إلى نهاوند، فأقام بها وحفظها، وضبط أعمال الجبل، وأخذها لنفسه، فأمسك عنه أخوه أبو منصور فرامرز.
ثم إن مستحفظاً لعلاء الدولة بقلعة نطنز أرسل أبو منصور إليه يطلب شيئاً مما عنده من الأموال والذخائر، فامتنع وأظهر العصيان، فسار إليه أبو منصور، وأخوه الأصغر أبو حرب، ليأخذ القلعة منه كيف أمكن، فصعد أبو حرب إليها، ووافق المستحفظ على العصيان، فعاد أبو منصور إلى أصبهان، وأرسل أبو حرب إلى الغز السلجوقية بالري يستنجدهم، فسار طائفة منهم إلى قاجان، فدخلوها ونهبوها وسلموها إلى أبي حرب وعادوا إلى الري، فسير إليها أبو منصور عسكراً ليستنقذها من أخيه، فجمع أبو حرب الأكراد وغيرهم، وجعل عليهم صاحباً له وسيرهم إلى أصبهان ليملكوها بزعمه، فسير إليهم أخوه أبو منصور عسكراً، فالتقوا، وانهزم عسكر أبي حرب وأسر جماعة منهم.
وتقدم أصحاب أبي منصور فحصروا أبا حرب، فلما رأى الحال، وخاف، نزل منها متخفياً، وسار إلى شيراز إلى الملك أبي كاليجار، صاحب فارس والعراق، فحسن له قصد أصبهان وأخذها من أخيه، فسار الملك إليها وحصرها، وبها الأمير أبو منصور، فامتنع عليه، وجرى بين الفريقين عدة وقائع، وكان آخر الأمر الصلح على أن يبقى أبو منصور بأصبهان، وتقرر عليه مال، وعاد أبو حرب إلى قلعة نطنز واشتد الحصار عليه، فأرسل إلى أخيه يطلب المصالحة، فاصطلحا على أن يعطي أخاه بعض ما في القلعة، ويبقى بها على حاله.
ثم إن إبراهيم ينال خرج إلى الري، على ما نذكره، وأرسل إلى أبي منصور فرامرز يطلب منه الموادعة، فلم يجبه، وسار فرامرز إلى همذان وبروجرد فملكهما، ثم اصطلح هو وأخوه كرشاسف، وأقطعه همذان، وخطب لأبي منصور على منابر بلاد كرشاسف، واتفقت كلمتهما، وكان المدبر لأمرهما الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله، وهو الذي سعى في جمع كلمتهما.

.ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان:

في هذه السنة ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، وسبب ذلك أن أنوشروان ابن منوجهر بن قابوس بن وشمكير صاحبها قبض على أبي كاليجار بن ويهان القوهي، صاحب جيشه، وزوج أمه بمساعدة أمه عليه، فعلم حينئذ طغرلبك أن البلاد لا مانع له عنها، فسار إليها، وقصد جرجان ومعه مرداويج بن بسو، فلما نازلها فتح له المقيم بها، فدخلها وقرر على أهلها مائة ألف دينار صلحاً، وسلمها إلى مرداويج بن بسو، وقرر عليه خمسين ألف دينار كل سنة عن جميع الأعمال، وعاد إلى نيسابور.
وقصد مرداويج أنوشروان بسارية، وكان بها، فاصطلحا على أن ضمن أنوشروان له ثلاثين ألف دينار، وأقيمت الخطبة لطغرلبك في البلاد كلها، وتزوج مرداويج بوالدة أنوشروان، وبقي أنوشروان يتصرف بأمر مرداويجلا يخالفه في شيء البتة.

.ذكر أحوال ملوك الروم:

نذكر هاهنا أحوال ملوك الروم من عهد بسيل إلى الآن، فنقول: من عادة ملوك الروم أن يركبوا أيام الأعياد إلى البيعة المخصوصة بذلك العيد، فإذا اجتاز الملك بالأسواق شاهده الناس وبأيديهم المداخن يبخرون فيها، فركب والد بسيل وقسطنطين في بعض الأعياد، وكان لبعض أكابر الروم بنت جميلة، فخرجت تشاهد الملك، فلما مر بها استحسنها، فأمر من يسأل عنها، فلما عرفها خطبها وتزوجها وأحبها، وولدت منه بسيل وقسطنطين، وتوفي وهما صغيران، فتزوجت بعده بمدة طويلة نقفور، فكره كل واحد منهما صاحبه، فعملت على قتله، فراسلت الشمشقيق في ذلك، فقصد قسطنطينية متخفياً، فأدخلته إلى دار الملك، واتفقا وقتلاه ليلاً، وأحضرت البطارقة متفرقين، وأعطتهم الأموال ودعتهم إلى تمليك الشمشقيق، ففعلوا، ولم يصبح، وقد فرغت مما تريد ولم يجر خلف.
وتزوجت الشمشقيق وأقامت معه سنة، فخافها، واحتال عليها وأخرجها إلى دير بعيد، وحمل ولديها معها، فأقامت فيه سنة، ثم أحضرت راهباً، ووهبته مالاً، وأمرته بقصد قسطنطينية، والمقام بكنيسة الملك، والاقتصار على قدر القوت، فإذا وثق به الملك، وأراد القربان من يده ليلة العيد، سقاه سماً، ففعل الراهب ذلك، فلما كان ليلة العيد سارت ومعها ولداها، ووصلت قسطنطينية في اليوم الذي توفي فيه الشمشقيق، فملك ولدها بسيل، ودبرت هي الأمر لصغره، فلما كبر بسيل قصد بلد البلغار، وتوفيت، وهو هناك، فبلغه وفاتها، فأمر خادماً له أن يدبر الأمور في غيبته.
ودام قتاله لبلغار أربعين سنة، فظفروا به فعاد مهزوماً، وأقام بالقسطنطينية يتجهز للعود، فعاد إليهم، فظفر بهم، وقتل ملكهم، وسبى أهله وأولاده، وملك بلاده، ونقل أهلها إلى الروم، وأسكن البلاد طائفة من الروم، وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة، فإن هؤلاء أقرب إلى بلد الروم من المسلمين بنحو شهرين، وكلاهما يسمى بلغار.
وكان بسيل عادلاً، حسن السيرة، ودام ملكه نيفاً وسبعين سنة، وتوفي ولم يخلف ولداً، فملك أخوه قسطنطين، وبقي إلى أن توفي، ولم يخلف غير ثلاث بنات، فملكت الكبرى، وتزوجت أرمانوس، وهو من أقارب الملك، وملكته، فبقي مدة، وهو الذي ملك الرها من المسلمين.
وكان لأرمانوس صاحب له يخدمه، قبل ملكه، من أولاد بعض الصيارف، اسمه ميخائيل، فلما ملك حكمه في داره، فمالت زوجة قسطنطين إليه، وعملا الحيلة في قتل أرمانوس، فمرض أرمانوس فأدخلاه إلى الحمام كارهاً وخنقاه، وأظهرا أنه مات في الحمام، وملكت زوجته ميخائيل، وتزوجته على كره من الروم.
وعرض لميخائيل صرع لازمه وشوه صورته، فعهد بالملك بعده إلى ابن أخت له اسمه ميخائيل أيضاً، فلما توفي ملك ابن أخته وأحسن السيرة، وقبض على أهل خاله وإخوته، وهم أخواله، وضرب الدنانير في هذه السنة، وهي سنة ثلاث وثلاثين، ثم أحضر زوجته بنت الملك وطلب منها أن تترهب وتنزع نفسها عن الملك، فأبت، فضربها وسيرها إلى جزيرة في البحر، ثم عزم على القبض على البطرك، والاستراحة من تحكمه عليه، فإنه كان لا يقدر على مخالفته، فطلب إليه أن يعمل له طعاماً في دير ذكره بظاهر القسطنطينية ليحضر عنده، فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى الدير ليعمل ما قال الملك، فأرسل الملك جماعة من الروس والبلغار، ووافقهم على قتله سراً، فقصدوه ليلاً وحصروه في الدير، فبذل لهم مالاً كثيراً، وخرج متخفياً، وقصد البيعة التي يسكنها، وضرب الناقوس، فاجتمع الروم عليه، ودعاهم إلى عزل الملك، فأجابوه إلى ذلك، وحصروا الملك في دار، فأرسل الملك إلى زوجته وأحضرها من الجزيرة التي نفاها إليها، ورغب في أن ترد عنه، فلم تفعل، وأخرجته إلى البيعة يترهب فيها.
ثم إن البطرك والروم نزعوا زوجته من الملك، وملكوا أختاً لها صغيرة، واسمها تذورة، وجعلوا معها خدم أبيها يدبرون الملك، وكحلوا ميخائيل، ووقعت الحرب بالقسطنطينية بين من يتعصب له وبين من يتعصب لتذورة والبطرك، فظفر أصحاب تذورة بهم، ونهبوا أموالهم.
ثم إن الروم افتقروا إلى ملك يدبرهم، فكتبوا أسماء جماعة يصلحون للملك في رقاع، ووضعوها في بنادق طين، وأمروا من يخرج منها بندقة، وهو لا يعرف باسم من فيها، فخرج اسم قسطنطين، فملكوه وتزوجته الملكة الكبيرة، واستنزلت أختها الصغيرة تذورة عن الملك بمال بذلته لها، واستقر في الملك سنة أربع وثلاثين، فخرج عليه فيها خارجي من الروم اسمه أرميناس، ودعا إلى نفسه فكثر جماعه حتى زادوا على عشرين ألفاً، فأهم قسطنطين أمره، وسير إليه جيشاً كثيفاً، فظفروا بالخارجي وقتلوه، وحملوا رأسه إلى القسطنطينية، وأسر من أعيان أصحابه مائة رجل، فشهروا في البلد، ثم أطلقوا وأعطوا نفقة، وأمروا بالانصراف إلى أي جهة أرادوا.

.ذكر فاسد حال الدزبري بالشام وما صار الأمر إليه بالبلاد:

في هذه السنة فسد أمر أنوشتكين الدزبري، نائب المستنصر بالله، صاحب مصر، بالشام، وقد كان كبيراً على مخدومه بما يراه من تعظم الملوك له، وهيبة الروم منه.
وكان الوزير أبو القاسم الجرجرائي يقصده ويحسده، إلا أنه لا يجد طريقاً إلى الوقيعة فيه، ثم اتفق أنه سعي بكاتب للدزبري اسمه أبو سعد، وقيل عنه إنه يستميل صاحبه إلى غير جهة المصريين، فكوتب الدزبري بإبعاده، فلم يفعل، واستوحشوا منه، ووضع الجرجرائي حاجب الدزبري وغيره على مخالفته.
ثم إن جماعة من الأجناد قصدوا مصر، وشكوا إلى الجرجرائي منه، فعرفهم سوء رأيه فيه، وأعادهم إلى دمشق، وأمرهم بإفساد الجند عليه ففعلوا ذلك.
وأحس الدزبري بما يجري، فأظهر ما في نفسه، وأحضر نائب الجرجرائي عنده، وأمر بإهانته وضربه، ثم إنه أطلق لطائفة من العسكر يلزمون خدمته أرزاقهم، ومنع الباقين، فحرك ما في نفوسهم، وقوى طمعهم فيه، بما كوتبوا به من مصر، فأظهروا الشغب عليه، وقصدوا قصره، وهو بظاهر البلد، وتبعهم من العامة من يريد النهب، فاقتتلوا، فعلم الدزبري ضعفه وعجزه عنهم، ففارق مكانه، واستصحب أربعين غلاماً له، وما أمكنه من الدواب والأثاث والأموال، ونهب الباقي، وسار إلى بعلبك، فمنعه مستحفظها، وأخذ ما أمكنه أخذه من مال الدزبري، وتبعه طائفة من الجند يقفون أثره، وينهبون ما يقدرون عليه.
وسار إلى مدينة حماة، فمنع عنها، وقوتل، وكاتب المقلد الكناني الكفرطابي، واستدعاه، فأجابه، وحضر عنده في نحو ألفي رجل من كفرطاب وغيرها، فاحتمى به، وسار إلى حلب، ودخلها، وأقام بها مدة، وتوفي في منتصف جماى الأولى من هذه السنة.
فلما توفي فسد أمر بلاد الشام، وانتشرت الأمور بها، وزال النظام، وطمعت العرب، وخرجوا في نواحيه، فخرج حسان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج معز الدولة بن صالح الكلابي بحلب، وقصدها وحصرها، وملك المدينة، وامتنع أصحاب الدزبري بالقلعة، وكتبوا إلى مصر يطلبون النجدة، فلم يفعلوا، واشتغل عساكر دمشق ومقدمهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمر دمشق، بعد الدزبري، بحرب حسان، ووقع الموت في الذين في القلعة، فسلموها إلى معز الدولة بالأمان.